اضطرت فاطمة وهي شابة من قضاء "سيد دخيل"، إلى ترك مقاعد الدراسة بعد وصولها إلى الصف الثالث المتوسط، إثر تقدّم أحد أقاربها للزواج منها، في قرار فرضته الأعراف الاجتماعية السائدة في المناطق الريفية، رغم تفوّقها الدراسي وتعلّقها بالتعليم.
وتقول فاطمة، وهو "اسم مستعار" إنها كانت من الطالبات المتفوقات منذ المرحلة الابتدائية وحتى المتوسطة غير أن "الزواج شكّل منعطفاً حاسماً في حياتها التعليمية".
وتضيف أن العوامل الاجتماعية والتقاليد العشائرية لا تترك مجالاً كبيراً للاعتراض أو الاستمرار بالدراسة، الأمر الذي دفعها إلى ترك المدرسة قبل أكثر من أربع سنوات، والدخول في حياة جديدة تحمّلت فيها مسؤوليات البيت والزوج، لا سيما في بيئة ريفية تُعد فيها هذه التقاليد أمراً لا يمكن تجاوزه.
وفي قصة مشابهة وجدت أسماء وهو "اسم مستعار" أيضاً نفسها خارج أسوار المدرسة لأسباب مختلفة لكنها لا تقل قسوة، فالمسافة الطويلة بين منزلها والمدرسة، التي تتطلب السير قرابة 20 دقيقة عبر طريق وعر وغير معبّد، إلى جانب الظروف الاقتصادية الصعبة، كانت عوامل حاسمة في قرار تركها التعليم.
وتوضح أسماء أن متطلبات الدراسة من ملابس ومستلزمات باتت عبئاً يفوق قدرة أسرتها خصوصاً أن والدها يعمل في رعي المواشي، وهو مصدر رزق تراجع بشكل كبير في ظل الظروف الحالية، مشيرة إلى أن هذه المعطيات دفعت عائلتها إلى إقناعها بترك الدراسة لتغادر المدرسة الابتدائية قبل نحو ست سنوات، في مشهد يعكس حجم التحديات التي تواجه تعليم الفتيات في المناطق الريفية.
وفي بعض المناطق، تسهم النزاعات العشائرية بشكل مباشر في تعطيل العملية التعليمية، إذ تُجبر المدارس الواقعة ضمن مناطق النزاع على تعليق الدوام حفاظاً على سلامة التلاميذ والملاكات التدريسية، وفي حالات أخرى يضطر سكان هذه المناطق إلى مغادرة مساكنهم مؤقتاً هرباً من التوترات، ما يؤدي إلى انقطاع أبنائهم عن الدراسة وإدراجهم ضمن قوائم المتسربين، في مشهد يعكس الأثر غير المباشر للنزاعات الاجتماعية على مستقبل التعليم.

"أرقام صادمة"
مسؤول ملف التعليم في مكتب حقوق الإنسان في ذي قار، أحمد الموسوي، كشف لمنصة "الجبال" عن جملة أسباب تقف وراء ظاهرة التسرب المدرسي ولا سيما بين الإناث، مشيراً أن هذه الظاهرة تتوزع أسبابها بين التفكك الأسري والعادات والتقاليد السائدة في المناطق الريفية إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة وبعد المدارس عن المناطق السكنية.
وأوضح الموسوي أن تسرب الفتيات في المرحلة الابتدائية غالباً ما يرتبط بالتفكك الأسري، حيث تفقد الطفلة البيئة الداعمة التي تمكّنها من الاستمرار في التعليم، إلى جانب تأثير العادات الاجتماعية التي ما تزال تعيق تعليم الإناث في بعض المناطق، فضلاً عن ضعف الإمكانات المالية للعائلات وبعد المسافة التي تضطر الطالبات إلى قطعها يوميا للوصول إلى المدارس.
أما في المرحلة الثانوية، فيبيّن الموسوي أن أسباب التسرب تختلف إذ تتصدرها قضايا الزواج وبلوغ الفتاة عمراً معينا يُنظر إليه اجتماعياً على أنه غير مناسب للاستمرار في الدراسة، إلى جانب منع بعض الفتيات من الالتحاق بالمدارس الثانوية المختلطة في عدد من المناطق البعيدة.
وعلى مستوى الأرقام، أشار الموسوي إلى أن العام الدراسي 2024–2025 شهد تسجيل 4093 حالة تسرب في المرحلة الابتدائية، توزعت بين 1913 ذكوراً و2180 إناثاً، فيما بلغ عدد المتسربين في المرحلة الثانوية 4600 طالب وطالبة بينهم 2900 من الذكور و1700 من الإناث، وهي أرقام تعكس حجم التحدي الذي يواجه قطاع التعليم وتطرح تساؤلات جدية حول فاعلية المعالجات الحالية للحد من هذه الظاهرة، ورغم أن هذه الأعداد هي أقل من العام الذي سبق لكنه يبقى يشكل تحدياً امام ملف التعليم.

"عوامل خارجية"
وقال مدير تربية ذي قار علي إسماعيل أن الوزارة أطلقت خلال العامين الماضيين حملة واسعة تحت عنوان "العودة إلى التعليم" أسفرت عن تحقيق نتائج متقدمة على المستوى الوطني في إعادة الطلبة المتسربين إلى مقاعد الدراسة.
وأوضح إسماعيل أن محافظة ذي قار حصدت خلال العام الماضي المركز الثالث على مستوى العراق في أعداد الطلبة العائدين إلى التعليم، فيما ارتقت هذا العام إلى المركز الثاني في مؤشر يعكس فاعلية الحملة والجهود المبذولة من قبل الملاكات التربوية.
وبيّن مدير تربية ذي قار أن مشكلة التسرب لا ترتبط بالعملية التربوية أو بمديرية التربية وحدها، بل تقف خلفها عوامل خارجية أبرزها الوضع الاقتصادي للأسر إذ تمثل تكاليف شراء الملابس والمستلزمات المدرسية عبئاً ثقيلاً يدفع بعض العائلات إلى إخراج أبنائها من المدارس، إلى جانب أسباب أخرى لا تقع ضمن صلاحيات المؤسسات التربوية.
وأشار إسماعيل إلى أن حملة "العودة إلى التعليم" نجحت في إعادة أكثر من 17 ألف طالب وطالبة إلى الدراسة، معتبراً ذلك رقماً مهماً قياساً بحجم التحديات القائمة.
وفيما يتعلق بالبنى التحتية، أكد إسماعيل أن المحافظة تحتاج حالياً إلى نحو 800 بناية مدرسية جديدة لضمان تطبيق الدوام الأحادي وإنهاء مشكلة الدوام المزدوج، التي ما تزال تشكل ضغطاً كبيراً على المدارس والطلبة على حد سواء.

فضاء آمن
ويرى مختصون في الشأن التربوي أن "معالجة ظاهرة التسرّب المدرسي لا يمكن أن تتحقق عبر حلول جزئية أو مؤقتة، بل تتطلب تطويراً شاملاً للعملية التعليمية والتربوية من حيث الكمّ والنوع، وإحداث تحولات بنيوية ومؤسسية ومنهجية تجعل المدرسة بيئة جاذبة للتلاميذ والطلبة".
ويؤكد هؤلاء أن المدرسة يجب أن تتحول من مجرد مكان للتلقين إلى فضاء آمن وحاضن يشعر فيه التلميذ أو التلميذة بالانتماء والدعم، بما يعزز رغبتهم في الاستمرار بالتعليم، ويحدّ من دوافع الانقطاع عنه في مختلف المراحل الدراسية.
وكشفت منظمة اليونيسف في بيان سابق أن عقوداً طويلة من الصراع إلى جانب ضعف الاستثمارات أسهمت في تراجع النظام التعليمي في العراق الذي كان يُصنَّف في وقت مضى من بين الأفضل على مستوى المنطقة. وأوضحت المنظمة أن هذه الظروف ألقت بظلالها الثقيلة على فرص الأطفال في الحصول على تعليم جيّد، مشيرة إلى أن نحو 3.2 مليون طفل عراقي في سن الدراسة باتوا اليوم خارج أسوار المدارس في مؤشر مقلق يعكس عمق الأزمة التعليمية في البلاد.
وبين قصص فتيات انقطعت أحلامهن عند أبواب المدارس وأرقام رسمية تكشف اتساع رقعة التسرب، تتضح صورة أزمة تعليمية في ذي قار لا يمكن اختزالها في سبب واحد أو تحميل مسؤوليتها لجهة بعينها. فالتسرب المدرسي يقف عند تقاطع الفقر مع العادات الاجتماعية وضعف البنى التحتية، ويحتاج إلى استجابة شاملة تتجاوز الحملات المؤقتة نحو سياسات مستدامة تحمي حق التعليم وتعيد للمدرسة دورها كمساحة أمان وأمل.

(أرشيف)