"بيت الكاهن" يفتح فصلاً غامضاً من تاريخ موقع تلّو الاثري.. مركز ديني أم إدارة مدينة؟

"بيت الكاهن" يفتح فصلاً غامضاً من تاريخ موقع تلّو الاثري.. مركز ديني أم إدارة مدينة؟ موقع تلو الأثري في ذي قار

جدران بسمك 90 سم وغرف وباحات كاملة

في موقع تلّو الأثري شمال ذي قار، بقضاء النصر، تكشف بعثة التنقيب البريطانية مواقع آثارية جديدة للتاريخ تبين حقب زمنية مختلفة تمتد لآلاف السنين في موسمها الثالث من الحفر والتنقيب والذي يعد واحداً من أبرز المواقع التي قد تعيد كتابة فصول مهمة من التاريخ البابلي القديم.


ويقول المنقب الأثري، لؤي ريسان، لمنصة "الجبال" إن التنقيبات في هذا الموسم كشفت عن بناء أثري هام يُعتقد أنه "بيت الكاهن" يعود للفترة البابلية القديمة ويقدّم لمحات نادرة عن الحياة الدينية والاقتصادية في تلك العصور السحيقة. 


وأوضح ريسان أن "البناء تم العثور عليه بجدران من الطوب يبلغ سمكها 90 سنتيمترا وقد تم اكتشاف أكثر من 100 رقم طينية تحمل نصوصاً عن الاقتصاد والدراسة والتعويذات والسحر مما يشير إلى أن هذا المكان لم يكن مجرد مسكن عادي، بل مركزاً متكاملاً لوظائف اجتماعية ودينية متعددة".


وأضاف الأثري أن "أعمال الحفر أسفرت عن بقاء جدران من الآجر وتحديد غرف وباحات داخل الموقع، في حين أن عمليات التنقيب لا تزال مستمرة للوصول إلى كامل تفاصيل البناء وإخراجها للعلن بما فيها محتويات وآثار أخرى يمكن أن تقدّم رؤى جديدة حول المجتمع البابلي القديم في جنوب العراق".


وأكد شامل الرميض، مدير مفتشية آثار ذي قار، لمنصة "الجبال" أن "بيت الكاهن" كان قد تم اكتشافه في مواسم سابقة، لكن هذا الموسم شهد اكتشاف الجدران والمباني واللقى الفخارية التي تحتوي على غرف وباحات عديدة، مشيراً إلى أن "الاكتمال الكامل للموقع سيجعل منه منطقة أثرية شاخصة قادرة على جذب السياح والمهتمين بالتراث، على غرار مواقع أثرية ضخمة معروف عنها التاريخ العراقي مثل الزقورة في أور، التي تمّ التنقيب فيها عبر بعثات بريطانية وأجنبية منذ عشرات السنين". 

 

 


ويأتي هذا الاكتشاف في وقت تواصل فيه العديد من البعثات الدولية عملها في جنوب العراق، حيث تم أيضاً العثور مؤخراً على أقدم الجسور في العالم في موقع لكش الاستراتيجي ضمن حملة تنقيب بريطانية أخرى، ما يؤكد الأهمية العالمية للتراث العراقي ودوره في فهم أصول الحضارات القديمة. 

 

 


ولا يقتصر الاهتمام بالآثار على الجنوب فقط، فقد ساهمت البعثات الأثرية في الكشف عن آلاف القطع من الألواح الطينية من مواقع بابلية أخرى التي تمّت دراستها ضمن مشاريع أثرية عالمية موثّقة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وما تزال هذه النصوص التي وثّقت الحياة الاقتصادية والدينية والسياسية في بلاد الرافدين تُدرس في المؤسسات العلمية حول العالم. 

 


ويُعدّ موقع تلو الأثري واحداً من أهم وأقدم المواقع الحضارية في جنوب العراق وهو الاسم الحديث لمدينة كرسو ويعود تاريخ الموقع إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتحديداً إلى عصور السلالات السومرية المبكرة، واستمر دوره الحضاري والإداري خلال فترات لاحقة، أبرزها العصر الأكدي ثم البابلي القديم. وقد شكّل تلو مركزاً دينياً وإدارياً مهماً ارتبط بمعابد كبرى وعبادة الإله نينجرسو، أحد أبرز آلهة سومر.


ويشتهر الموقع بالاكتشافات الأثرية الغنية وفي مقدمتها آلاف الألواح الطينية المسمارية التي وثّقت تفاصيل الحياة الاقتصادية والإدارية والدينية، إضافة إلى القصور والمباني الإدارية وبيوت الكهنة كما شهد الموقع أعمال تنقيب مبكرة منذ القرن التاسع عشر، ويستمر اليوم باحتضان بعثات أثرية دولية، أبرزها بعثة المتحف البريطاني التي تسهم في كشف مزيد من أسرار واحدة من أقدم مدن الحضارة الإنسانية.

 


ويقول عالم الآثار آشلي بولي أحد أعضاء فريق التنقيب العامل مع المتحف البريطاني إن موقع تلو الأثري يمثّل القلب الإداري للمدينة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، مؤكداً أن الاكتشافات الأثرية تثبت استخدام هذا المكان كمركز لإدارة شؤون المدينة عبر حقب زمنية متعاقبة.


ويكمل بولي أن الموقع يضم مبان متعددة تعود إلى فترات تاريخية متباينة، تمتد إلى عصر السلالات المبكرة، ما يعكس استمرارية الدور الإداري والسياسي للمكان على مدى قرون طويلة، مضيفاً أن أعمال التنقيب كشفت عن أعداد كبيرة من الألواح الطينية المدوّنة، والتي توفر معلومات دقيقة عن حركة نقل البضائع داخل المدينة، والمسارات المهنية للمسؤولين والإداريين، فضلاً عن إشارات مهمة تتعلق بطبيعة الإدارة والسياسة في هذه المنطقة خلال ذلك الزمن، ما يمنح الباحثين صورة أوضح عن آليات الحكم والتنظيم في واحدة من أقدم مدن الحضارة الإنسانية.

 

 

وبينما يبقى "بيت الكاهن" في تلّو قائماً كإحدى بوابات الماضي الغامض، يبقى العامل البشري هو المفتاح الأهم في استعادة حضارة مزدهرة منذ آلاف السنين، تعكس إبداع تلك المجتمعات وقدرتهم على البناء في أحد أقدم مواطن الإنسانية على وجه الأرض.


وتحتضن محافظة ذي قار أكثر من  1200 موقع أثري موزعة في مختلف مناطقها، غير أن أعمال التنقيب طوال السنين الماضية لم تطل سوى 70 موقعاً فقط حتى الآن، في مؤشر يعكس حجم التاريخ المدفون والذي ما زال ينتظر الكشف.
وبحسب المعطيات المتاحة، لا يعمل في المحافظة سوى 10 فرق تنقيبية تنفذ أعمالها سنوياً في عشرة مواقع فقط، رغم الأهمية العالمية التي تمثلها هذه الرقعة الجغرافية بوصفها مهداً للحضارات الأولى وتُعد مواقع أريدو ولكش وكرسو وتل العبيد وأم العقارب من أبرز المدن الأثرية التي كشفت عن طبقات زمنية تمتد لآلاف السنين، مؤكدة أن ما تم اكتشافه حتى اليوم لا يمثل سوى جزء يسير من تاريخ ذي قار الاثاري.

 


الجبال

نُشرت في الأربعاء 17 ديسمبر 2025 02:34 م

شارك هذا المنشور

ما رأيك في هذا المنشور؟
أعجبني لم يعجبني

اشترك في النشرة البريدية

© 2025 الجبال. كل الحقوق محفوظة.