شهدت الانتخابات النيابية العراقية الأخيرة 2025 تراجعاً كبيراً في حظوظ القوى المدنية والأحزاب الناشئة عن احتجاجات تشرين، على الرغم من الآمال التي كانت معقودة عليها لتمثيل "الصوت المختلف" تحت قبة البرلمان.
في واحدة من شذراته، كتب المفكر الإيطالي غرامشي في سياق تحليل السلطة والمجتمع المدني، قائلاً إن "الأزمة تكمن بالتحديد في حقيقة أن القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد. وفي هذا الفراغ تظهر مجموعة متنوعة من الأعراض المرضية"، وهذه الأزمة، كما يراها مراقبون، تتمثل في عجز "الجديد" (المدني والتشريني) عن التوحد والتنظيم في مواجهة "القديم" (القوى التقليدية)، هي جوهر ما نعيشه اليوم فقد انتهت الانتخابات النيابية الأخيرة بنتائج صادمة للقوى المدنية، حيث فشلت في تحقيق أي تمثيل منظور.
وقد أثار هذا تراجع المدنيين، موجة من التحليلات النقدية داخل صفوف هذه القوى، ما بين اتهام للأخطاء الذاتية التي ارتكبتها وتأكيد على أن النظام السياسي "قد نجح في إذابتها وتحجيمها"، فيما يعتقد نشطاء أن "البرلمان المقبل سيكون مسرحاً لتجذير الصوت الواحد، ما يضع القوى المدنية أمام تحدي إعادة تنظيم صفوفها والبحث عن آليات تأثير خارج قبة التشريع".
ولم يحصل تحالف "البديل"، أو التيار المدني الديمقراطي على مقاعد تؤهله لمنافسة القوى التقليدية الصاعدة، وبالنسبة للمدافعين عن القوى المدنية، فإنهم يشيرون إلى أنّ "قواعد اللعبة الانتخابية الحالية لا تتيح فرصة حقيقية للقوى المدنية غير المسلحة أو الممولة سياسياً".
وقد أشار الكاتب والإعلامي سعدون محسن ضمد حول هذا الموقف، إلى "مشاركة القوى المدنية في نظام انتخابي لا يمنحها في أحسن الأحوال سوى وظيفة الكورس وإضفاء الشرعية على برلمان يدعي التعددية، بينما تسيطر عليه عوامل المال السياسي والسلاح"، فيما يرى ضمد في نتائج الانتخابات "فرصة مواتية" لطرح "مشروع معارض خارج البرلمان يتبنى تصحيح العملية السياسية بخطاب صريح، داعياً القوى المعارضة إلى "التوحد وتحديد شرائح ناخبيها وخطابها من الآن، بدلاً من الوقوع في الفخ ذاته كل أربع سنوات".
"المشاركة كانت خطأ"
وفي الدورات البرلمانية السابقة، تمكن العديد من النواب الذين كانوا قد انخرطوا في احتجاجات تشرين، من الفوز في انتخابات 2021، لكن جميعهم تقريباً خسروا في الدورة الحالية، على الرغم من ذهاب بعضهم مع أحزاب تقليدية كبرى، حصدت مئات الآلاف من الأصوات.
وفي حديثه لـ"الجبال"، يصف الأكاديمي والكاتب، فارس حرام مشاركة القوى المدنية الأخيرة بأنها "خطأ أسهم في تشتيت سلاح المقاطعة، التي تحولت إلى حركة انفعالية بدلاً من خيار سياسي يهدف إلى تغيير شروط السلطة".
ويتوقع حرّام، "دورة برلمانية جديدة استبدادية بالكامل ستشهد أكبر سعي للاستبداد ويسعى فيها الفائزون إلى تشريع أكبر حزمة سيطرة على الرأي العام بالقوانين، بما قد يضعف حرية التعبير ويمهد لبقاء السلطة الحالية".
ويعزو حرّام حالة التشتت إلى "انعدام الحوار بين أطراف التيار المدني والحركة المدنية في العراق ومن ضمنها الحركة التشرينية، وعيش قادتها وأحزابها في جزر معزولة، وأن القوائم الانتخابية الأخيرة جمعت أناساً متفرقين من حيث الرؤية السياسية".
ويرى حرام أن "لا طريق سوى الحوار، وإقامة مؤتمر نقدي يجمع الشتات"، مستدركاً بالقول: "لكن هذا يتطلب أولاً التواضع والاستعداد للاعتراف بالأخطاء من الجميع".
"أفضل من التمثيل في مؤسسة خاملة وميّتة"
وبالسؤال عن عن الدورة البرلمانية القادمة خاصة بعد خسارة القوى المدنية، يرى حامد السيد نائب رئيس المكتب السياسي لتيار الخط المدني، بأن "عدم تمثيل القوى المدنية في البرلمان القادم هو من حسن حظهم، لأن هذا البرلمان سيكون مؤسسة خاملة وميتة يستكمل مسيرته في الاستتباع السياسي والرضوخ إلى المحاصصة وتحكم أصحاب المال الذين مولوا الحملات الانتخابية".
ويدعو السيّد عبر "الجبال"، القوى المدنية إلى "تنظيم صفوفها وهي خارج البرلمان، واللجوء إلى الوسائل الديمقراطية خارج التمثيل النيابي، لتشكيل جبهة رفض واسعة وكبيرة، تعيد تجربة الاحتجاج الشعبي أو تأسيس جماعات الظل الشعبية".
ويؤكد السيد على أن "الرهان لا يمكن أن يكون على الانتخابات ما لم يتم تطبيق قانون الأحزاب 2015 بحذافيره، خاصة فيما يتعلق بمنع الأحزاب التي تملك أجنحة مسلحة أو التي لا تفصح عن مصادر تمويلها"، رافضاً إحياء "سانت ليغو المحور، لأنها طريقة تفصل دائماً على مقاس الأحزاب السلطوية".
ودعا السيّد إلى "تبني نظام الدوائر المتعددة وزيادة عددها لتحقيق التمثيل الدستوري (مقعد نيابي لكل 100 ألف نسمة)".
"التذويب والتحجيم"
وبالحديث عن أسباب خسارة القوى المدنية في الانتخابات، فإنّ الفشل يعود إلى الأخطاء التي ارتكبتها القوى المدنية ذاتها، وآليات النظام السياسي في إذابة هذه القوى وتحجيمها. بحسب مصطفى السراي، مدير قسم الأبحاث في مركز البيان للدراسات والتخطيط.
ويقول السراي لـ"الجبال"، إن "القوى المدنية أضاعت ثقة الجمهور بعدما تحولت من المعارضة إلى جزء من القوى التقليدية، وفشلت في بناء تنظيمات حزبية وجماهيرية قوية، مما أدى إلى تشتتها بدلاً من توحيد الصفوف"، كما أنها "اعتمدت على الشعارات فقط بدلاً من تقديم برنامج عمل واضح كبديل حقيقي، وانقطعت عن التواصل مع الجمهور بشكل كامل".
وفي المقابل، مارس النظام السياسي آليات واضحة لتذويب هذه القوى، مستخدماً سياسة "الترغيب والترهيب" عبر عرض المناصب والامتيازات ومواجهة بعضها بالقوة والسلطة، بحسب السرّاي.
ومن بين تحالفات "البديل"، و"التيار المدني الديمقراطي"، و"الفاو زاخو"، و"مدنيون"، حصلت هذه التحالفات مجتمعة على مقعد واحد ذهب إلى النائب عن محافظة البصرة، عامر عبد الجبار، الذي يرأس تحالف "الفاو زاخو".
(الجبال)