تظل الاعتمادية النفطية، السمة الأساسية التي تحدد ملامح الاقتصاد العراقي المعاصر، فالإيرادات النفطية تمثل أكثر من 90% من إجمالي الإيرادات العامة للدولة وتغطي نحو 95% من تمويل الموازنة الاتحادية، إذ يجعل هذا الواقع مسار الأداء المالي للعراق رهيناً بأسعار النفط العالمية لاسيما في ظل ضعف مساهمة القطاعات الإنتاجية غير النفطية مثل الزراعة والصناعة والخدمات التحويلية، فيما يُعد سعر البرميل العامل الأكثر حساسية في ضبط الاستقرار المالي والاجتماعي، إذ أن أي تراجع فيه ينعكس مباشرة على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها التشغيلية والاستثمارية أبرزها رواتب الموظفين والمتقاعدين.
سقوط حر لأسعار النفط
في هذا السياق، حذّر الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، من انخفاض أسعار النفط، متوقعاً أن يصل سعر البرميل إلى حدود 50 دولاراً خلال الأيام المقبلة.
وأرجع المرسومي هذا الانخفاض إلى الحراك الأميركي بشأن إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، داعياً في الوقت نفسه إلى إيقاف "الصرف الباذخ" على الحملات الانتخابية، الذي قدّر حجمها بـ"تريليونات الدنانير"، بالإضافة إلى تشكيل خلية أزمة حكومية لمعالجة الوضع المالي.
وقال المرسومي في تدوينة بعنوان "سقوط حر لأسعار النفط"، تابعتها "الجبال": سعر خام البصرة الثقيل وصل إلى 59.59 دولاراً للبرميل، بينما بلغ سعر خام البصرة المتوسط 60.74 دولاراً. المطلوب إيقاف الصرف الباذخ على الحملات الانتخابية التي (طشت) فيها ترليونات الدنانير، وتشكيل خلية أزمة حكومية لمعالجة الوضع المالي للعراق في ظل انخفاض أسعار النفط، واحتمال وصولها إلى 50 دولاراً بعد الاتفاق بين الرئيسين الأميركي والروسي لمناقشة إنهاء الحرب في أوكرانيا".
وأشار المرسومي إلى أن الاتفاق بين واشنطن وموسكو بشأن الحرب في أوكرانيا سيخفف من اضطراب الإمدادات، فضلاً عن الحرب التجارية القائمة بين الصين والولايات المتحدة التي أضعفت الطلب العالمي على النفط، مما ينذر بمزيد من الأخبار السيئة للأسعار.
ويمتلك العراق التزامات إنفاق ضخمة، لكن الأهم منها هو بند الرواتب والمعاشات التقاعدية. ووفق المستشار الحكومي مظهر محمد صالح، فإن "الحكومة ستدفع الرواتب ولو كلّف الأمر كل شيء، فالرواتب مقدّسة في العراق" بحسب تعبيره.
وفي عام 2025، تُقدّر هذه الالتزامات بنحو 64 مليار دولار ويمثل النفط المصدر الرئيس للإيرادات، إذ يصدّر العراق حوالي 3.5 مليون برميل يومياً، وعند سعر 70 دولاراً للبرميل، تصل الإيرادات إلى 89 مليار دولار، وهو مبلغ يكفي لتغطية رواتب القطاع العام. أما انخفاض السعر إلى 50 دولاراً، فيعني أن الإيرادات ستنكفئ إلى 64 مليار دولار، بالكاد تكفي لتغطية الأجور والمعاشات.
ويبيع العراق نفطه عادةً بخصم مقارنةً بسعر خام برنت العالمي، وقد بلغ متوسط هذا الخصم بين عامي 2021 و2023 نحو 3 دولارات للبرميل، وهذا يعني أن سعر التعادل للحفاظ على استمرارية المالية العراقية يقدر بنحو 53 دولاراً للبرميل، وهو المستوى الذي يفصل بين الاستقرار المالي والفوضى.
ولا يقتصر الأثر على السنة المالية الحالية فقط، بل يكشف عن عمق أزمة الاعتماد الأحادي على المورد النفطي ويختبر جاهزية الدولة للتعامل مع الصدمات المستقبلية، فالموازنة العراقية تعتمد على إنفاق تشغيلي مرتفع، حيث تهيمن بنود الرواتب والدعم على أكثر من ثلثي النفقات العامة، ما يجعل الاقتصاد عرضة لما يُعرف بـ "الصدمة السلبية في Terms of Trade"، أي انخفاض عائدات التصدير مع ثبات أو ارتفاع الالتزامات المحلية.
ومع استمرار تراجع الأسعار إلى حدود 60 دولاراً للبرميل، وتوقع انخفاضها إلى 50 دولاراً، يصبح العراق أمام اختبار مالي هيكلي يهدد قدرته على تمويل الإنفاق العام، فوفق تقديرات وزارة المالية، فإن كل انخفاض مقداره دولار واحد في سعر النفط يؤدي إلى خسارة تتجاوز مليار دولار سنوياً، ما يؤكد هشاشة الموازنة وضعف مرونتها تجاه التقلبات العالمية.
سيناريوهات الطوارئ: كيف ستتصرف الحكومة؟
يرى الخبير الاقتصادي منار العبيدي، أن المشكلة ليست قصيرة الأمد، بل تتعلق بقدرة الدولة على التخطيط لعشر سنوات مقبلة، مؤكدا لـ"الجبال" أن تراجع الإيرادات النفطية سيدفع الحكومة إلى سلسلة من السيناريوهات الاضطرارية، تشمل مبادلة الديون بالأصول العامة، وتأجيل صرف الرواتب أو توزيعها على فترات زمنية، وسحب الأمانات المالية من المؤسسات الحكومية، فضلاً عن رفع الدعم تدريجياً عن المشتقات النفطية وزيادة الضرائب على القطاعات الكبرى.
هذه الإجراءات تصنف ضمن إدارة العجز قصير الأجل (Short-term Deficit Management)، فهي تهدف إلى امتصاص الأزمة مؤقتاً دون معالجة الأسباب البنيوية للعجز.
ويؤكد العبيدي أن العجز المالي العراقي ليس مجرد نتيجة لتقلبات أسعار النفط، بل انعكاس لخلل أعمق في البنية الاقتصادية والسياسية، إذ "تعتمد الدولة على الريع النفطي لتوزيع الدخل على شكل رواتب ودعم مباشر، دون وجود قاعدة إنتاجية مستدامة. أي انخفاض في النفط بمستويات كبيرة يُعتبر هزة تهدد العقد الاجتماعي القائم على الريع".
ويتفق هذا التحليل مع تقارير صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تشير إلى أن الاقتصاد العراقي يفتقر إلى المرونة الهيكلية، وأن أي انخفاض للنفط بمقدار 20 إلى 30 دولاراً عن السعر المعتمد في الموازنة سيؤدي إلى عجز مزدوج مالي في الموازنة ونقدي في ميزان المدفوعات، مع غياب تنسيق فعال بين السياسة المالية والنقدية.
ويظهر التحليل المقارن أن الدول التي واجهت صدمات مشابهة تعاملت معها بطرق مختلفة، فعلى سبيل المثال، فنزويلا بعد انهيار النفط عام 2014 لجأت إلى طباعة العملة وتمويل العجز بالديون، ما أدى لانهيار العملة وتصاعد التضخم إلى مستويات قياسية، في حين اعتمدت السعودية والإمارات خطط تنويع اقتصادي وإنشاء صناديق سيادية تمتص تقلبات السوق.
أما العراق، فهو عالق بين الخيارين: لا يمتلك مرونة مالية كالدول الغنية، ولا بنية إنتاجية كالدول الصناعية، ما يجعل أي أزمة نفطية تهدد الاستقرار بشكل مباشر.
العبيدي عاد ليؤكد أن "الحلول الآنية، مثل مبادلة الديون بالأصول أو تأجيل الرواتب، تشبه خطة طوارئ مالية، لكنها لا تعالج السبب الجوهري، فالحل الحقيقي يكمن في إعادة هيكلة النفقات التشغيلية للدولة، وتنويع مصادر الإيرادات بعيداً عن النفط، وتحفيز القطاعات الإنتاجية ودعم القطاع الخاص ليصبح محرك النمو الأساسي، فالمطلوب هو الانتقال من دولة ريعية تعتمد على النفط كمصدر رئيس للثروة إلى اقتصاد يخلق الثروة داخلياً ويعتمد على الإنتاج لا على الإيرادات المؤقتة".
وفي ظل الانخفاض الحالي لأسعار النفط، يرتبط مستقبل الموازنة العراقية بقدرة الحكومة على تحقيق ثلاثة أهداف مترابطة: تعزيز الانضباط المالي من خلال السيطرة على النفقات الجارية، وتنويع الإيرادات عبر الضرائب وتحفيز القطاعات الإنتاجية، وإعادة هيكلة الاقتصاد لتمكين القطاع الخاص من أن يصبح المنتج الأكبر ومحرك النمو بدلاً من الدولة.
ويواجه العراق اليوم اختباراً حقيقياً، فمنذ الاتفاق الأخير بوقف حرب غزة، بدأت أسعار النفط في الانخفاض بشكل ملحوظ، ما يضع الاقتصاد العراقي أمام تحديات مباشرة وحقيقية كون استمرار هذا النزول سيؤثر بشكل مباشر على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الأساسية، وعلى رأسها رواتب الموظفين ومعاشات المتقاعدين، وهو ما يجعل ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لإدارة الأزمة المالية أمراً لا يحتمل التأجيل، فالموازنة العراقية اليوم على مفترق طرق، والقرار الحكومي في مواجهة هذا الانحدار النفطي سيحدد مدى استقرار المجتمع العراقي في المستقبل القريب.